كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ جَعَلُوا لَفْظَ التَّأْوِيلِ يَعُمُّ الْقِسْمَيْنِ يَتَمَسَّكُونَ بِمَا يَجِدُونَهُ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي الْمُتَشَابِهِ مِثْلَ قول أَحْمَد فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَلَا كَيْفَ وَلَا مَعْنَى ظَنُّوا أَنَّ مُرَادَهُ. أَنَّا لَا نَعْرِفُ مَعْنَاهَا. وَكَلَامُ أَحْمَد صَرِيحٌ بِخِلَافِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يُنْكِرُ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ القرآن عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَصَنَّفَ كِتَابَهُ فِي (الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة) فِيمَا أَنْكَرَتْهُ مِنْ مُتَشَابِهِ القرآن وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَأْوِيلَ القرآن عَلَى غَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُمْ إذَا تَأَوَّلُوهُ يَقولونَ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا وَالْمُكَيِّفُونَ يُثْبِتُونَ كَيْفِيَّةً. يَقولونَ: إنَّهُمْ عَلِمُوا كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ. فَنَفَى أَحْمَد قول هَؤُلَاءِ وَقول هَؤُلَاءِ: قول الْمُكَيِّفَةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْكَيْفِيَّةَ وَقول الْمُحَرِّفَةِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقولونَ مَعْنَاهُ كَذَا وَكَذَا. وَقَدْ كَتَبْت كَلَامَ أَحْمَد بِأَلْفَاظِهِ- كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَاب السُّنَّةِ وَكَمَا ذَكَرَهُ مَنْ نَقَلَ كَلَامَ أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي ذَلِكَ- فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ فِي الْآيَةِ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ التَّأْوِيلُ فِي لُغَةِ القرآن كَقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقول الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}.
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ} تَصْدِيقُ مَا وَعَدَ فِي القرآن وَعَنْ قتادة تَأْوِيلُهُ ثَوَابُهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ جَزَاؤُهُ وَعَنْ السدي عَاقِبَتُهُ وَعَنْ ابْنِ زَيْدٍ حَقِيقَتُهُ.
قال بَعْضُهُمْ تَأْوِيلُهُ مَا يَئُولُ إلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنْ الْعَذَابِ وَوُرُودِ النَّارِ. وَقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}، قال بَعْضُهُمْ تَصْدِيقُ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ الْوَعِيدِ وَالتَّأْوِيلُ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْأَمْرُ وَعَنْ الضَّحَّاكِ يَعْنِي عَاقِبَةَ مَا وَعَدَ اللَّهُ فِي القرآن أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْ الْوَعِيدِ وَالتَّأْوِيلُ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْأَمْرُ.
وقال الثَّعْلَبِيُّ: تَفْسِيرُهُ. وَلَيْسَ بِشَيْءِ.
وقال الزَّجَّاجُ: لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ.
وقال يُوسُفُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ السلام {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} فَجَعَلَ نَفْسَ سُجُودِ أَبَوَيْهِ لَهُ تَأْوِيلَ رُؤْيَاه.
وقال قَبْلَ هَذَا: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} أَيْ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا التَّأْوِيلُ. وَالْمَعْنَى لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ فِي الْمَنَامِ لَمَّا قال أحدهُمَا: {إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقال الْآخَرُ إنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا}.
{إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} فِي الْيَقَظَةِ {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} الطَّعَامُ هَذَا قول أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ الصَّوَابُ.
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ تُطْعَمَانِهِ. وَتَأْكُلَانِهِ إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ بِتَفْسِيرِهِ وَأَلْوَانِهِ أَيَّ طَعَامٍ أَكَلْتُمْ وَكَمْ أَكَلْتُمْ وَمَتَى أَكَلْتُمْ؟ فَقالوا: هَذَا فِعْلُ الْعَرَّافِينَ وَالْكَهَنَةِ فَقال مَا أَنَا بِكَاهِنِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْعِلْمُ مِمَّا يُعَلِّمُنِي رَبِّي. وَهَذَا الْقول لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ قال: {إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} وَقَدْ قال أحدهُمَا: {إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقال الْآخَرُ إنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} فَطَلَبَا مِنْهُ تَأْوِيلَ مَا رَأَيَاهُ وَأَخْبَرَهُمَا بِتَأْوِيلِ ذَاكَ وَلَمْ يَكُنْ تَأْوِيلُ الطَّعَامِ فِي الْيَقَظَةِ وَلَا فِي القرآن أَنَّهُ أَخْبَرَهُمَا بِمَا يُرْزَقَانِهِ فِي الْيَقَظَةِ فَكَيْفَ يَقول قولا عَامًّا: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} وَهَذَا الْإِخْبَارُ الْعَامُّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَالْأَنْبِيَاءُ يُخْبِرُونَ بِبَعْضِ ذَلِكَ لَا يُخْبِرُونَ بِكُلِّ هَذَا. وَأَيْضًا فَصِفَةُ الطَّعَامِ وَقَدْرُهُ لَيْسَ تَأْوِيلًا لَهُ. وَأَيْضًا فَاَللَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَّمَهُ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا قال يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السلام {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} وَقال يُوسُفُ عَلَيْهِ السلام {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} وَقال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} وَلَمَّا رَأَى الْمَلِكُ الرُّؤْيَا قال لَهُ الَّذِي ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي} وَالْمَلِكُ قال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ}. فَهَذَا لَفْظُ التَّأْوِيلِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَأحد.
وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} قال مُجَاهِدٌ وقتادة: جَزَاءً وَثَوَابًا وَقال السدي وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ: عَاقِبَةً.
وعن ابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا: تَصْدِيقًا. كَقوله: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحَةٌ والمعنى واحد وَهَذَا تَفْسِيرُ السَّلَفِ أَجْمَعِينَ وَمِنْهُ قوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُ مَا ذَكَرَ قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}. وَهَذَا تَأْوِيلُ فِعْلِهِ لَيْسَ هُوَ تَأْوِيلَ قوله وَالْمُرَادُ بِهِ عَاقِبَةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ مَا فَعَلْته: مِنْ مَصْلَحَةِ أَهْلِ السَّفِينَةِ وَمَصْلَحَةِ أَبَوَيْ الْغُلَامِ وَمَصْلَحَةِ أَهْلِ الْجِدَارِ. وَأَمَّا قول بَعْضِهِمْ: رَدُّكُمْ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أَحْسَنُ مِنْ تَأْوِيلِكُمْ فَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ عَنْ بَعْضِهِمْ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ مَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فِي لَفْظِ التَّأْوِيلِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ بِالِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ لَا بِلُغَةِ القرآن فَأَمَّا قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فَلَفْظُ التَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ كَمَا يَقول ابْنُ جَرِيرٍ: الْقول فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. أَيْ فِي تَفْسِيرِهَا. وَلَمَّا كَانَ هَذَا مَعْنَى التَّأْوِيلِ عِنْدَ مُجَاهِدٍ وَهُوَ أمام التَّفْسِيرِ جَعَلَ الْوَقْفَ عَلَى قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فَإِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَهُ وَهَذَا الْقول اخْتِيَارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْل السُّنَّةِ. وَكَانَ ابْنُ قُتَيْبَةَ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِي (الْمُشْكِلِ) وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا مُتَأَخِّرُو الْمُفَسِّرِينَ كَالثَّعْلَبِيِّ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ.
قال: فَمَعْنَى التَّفْسِيرِ هُوَ التَّنْوِيرُ وَكَشْفُ الْمُغْلَقِ مِنْ الْمُرَادِ بِلَفْظِهِ.
وَالتَّأْوِيلُ: صَرْفُ الْآيَةِ إلَى مَعْنًى تَحْتَمِلُهُ يُوَافِقُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَتَكَلَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ إلَّا أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ. هُوَ الْمَعْنَى الثَّالِثُ الْمُتَأَخِّرُ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ يَقول: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ بِمَعْنًى وَأحد؟ أَمْ يَخْتَلِفَانِ؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إلَى الْعَرَبِيَّةِ: إلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَهَذَا قول جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إلَى الْفِقْهِ: إلَى اخْتِلَافِهِمَا فَقالوا: التَّفْسِيرُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ عَنْ مَقَامِ الْخَفَاءِ إلَى مَقَامِ التَّجَلِّي وَالتَّأْوِيلُ: نَقْلُ الْكَلَامِ عَنْ وَضْعِهِ إلَى مَا يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِهِ إلَى دَلِيلٍ لَوْلَاهُ مَا تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قولك آلَ الشَّيْءُ إلَى كَذَا. أَيْ صَارَ إلَيْهِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَذْكُرُونَ لِلتَّأْوِيلِ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي لُغَةِ القرآن فَلَا يَذْكُرُونَهُ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي القرآن هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي يَئُولُ إلَيْهِ الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا الْمَعْنَى الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ اللَّفْظِ بَلْ لَا يُعْرَفُ فِي القرآن لَفْظُ التَّأْوِيلِ مُخَالِفًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ خِلَافَ اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالْكَلَامُ نَوْعَانِ: إنْشَاءٌ وَإِخْبَارٌ. فَالْإِنْشَاءُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِبَاحَةُ وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ نَفْسُ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَنَفْسُ تَرْكِ الْمَحْظُورِ. كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقول فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ القرآن فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ تَأْوِيلَ قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}.
قال ابْن عُيَيْنَة: السُّنَّةُ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وقال أَبُو عُبَيْدٍ لَمَّا ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ قال: وَالْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ. يَقول: هُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ وَمَا نَهَى عَنْهُ فَيَعْرِفُونَ أَعْيَانَ الْأَفْعَالِ الْمَوْجُودَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا وَأَعْيَانَ الْأَفْعَالِ الْمَحْظُورَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا. وَتَفْسِيرُ كَلَامِهِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ؛ بَلْ هُوَ بَيَانُهُ وَشَرْحُهُ وَكَشْفُ مَعْنَاه. فَالتَّفْسِيرُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ: يُفَسَّرُ الْكَلَامُ بِكَلَامٍ يُوَضِّحُهُ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَهُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْخَبَرُ كَإِخْبَارِ الرَّبِّ عَنْ نَفْسِهِ تعالى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِخْبَارِهِ عَمَّا ذِكْرِهِ لِعِبَادِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقول الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} وَهَذَا كَقولهمْ: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} وَمِثْلُهُ قوله: {انْطَلِقُوا إلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وَقوله: {وَيَقولونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي القرآن. وَكَذَلِكَ قوله: {أَمْ يَقولونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} فَإِنَّ مَا وُعِدُوا بِهِ فِي القرآن لَمَّا يَأْتِهِمْ بَعْدُ وَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ. فَالتَّفْسِيرُ هُوَ الْإِحَاطَةُ بِعِلْمِهِ وَالتَّأْوِيلُ هُوَ نَفْسُ مَا وُعِدُوا بِهِ إذَا أَتَاهُمْ فَهُمْ كَذَّبُوا بِالقرآن الَّذِي لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ؛ وَقَدْ يُحِيطُ النَّاسُ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ فَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يُحِيطُ بِعِلْمِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَ قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} الْآيَةُ: قال: «إنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ» قال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} قال بَعْضُهُمْ: مَوْضِعُ قرار وَحَقِيقَةٌ وَمُنْتَهًى يَنْتَهِي إلَيْهِ فَيُبَيِّنُ حَقَّهُ مِنْ بَاطِلِهِ وَصِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ.
وقال مُقَاتِلٌ: لِكُلِّ خَبَرٍ يُخْبِرُ بِهِ اللَّهُ وَقْتٌ وَمَكَانٌ يَقَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرٍ خَلْفٍ وَلَا تَأْخِيرٍ.
وقال ابْنُ السَّائِبِ: لِكُلِّ قول وَفِعْلٍ حَقِيقَةٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا فَسَتَعْرِفُونَهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ فَسَوْفَ يَبْدُو لَكُمْ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
وقال الْحَسَنُ: لِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ؛ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ الْخَيْرِ جُوزِيَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ سُوءٍ جُوزِيَ بِهِ فِي النَّارِ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. وَمَعْنَى قول الْحَسَنِ: أَنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهَا هُوَ النَّبَأُ الَّذِي لَهُ الْمُسْتَقَرُّ فَبَيَّنَ الْمَعْنَى وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ نَفْسَ الْجَزَاءِ هُوَ نَفْسُ النَّبَأِ.
وعن السدي قال: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} أَيْ مِيعَادٌ وَعَدَتْكُمُوهُ فَسَيَأْتِيكُمْ حَتَّى تَعْرِفُونَهُ وَعَنْ عَطَاءٍ: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} تُؤَخَّرُ عُقُوبَتُهُ لِيَعْمَلَ ذَنْبَهُ فَإِذَا عَمِلَ ذَنْبَهُ عَاقَبَهُ أَيْ لَا يُعَاقِبُ بِالْوَعِيدِ حَتَّى يَفْعَلَ الذَّنْبَ الَّذِي تَوَعَّدَهُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قول كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ فِي آيَاتٍ: هَذِهِ ذَهَبَ تَأْوِيلُهَا وَهَذِهِ لَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا مِثْلَ مَا رَوَى أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قرئتْ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةُ. فَقال ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيْسَ هَذَا بِزَمَانِهَا قولوهَا مَا قُبِلَتْ مِنْكُمْ فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ قال: إنَّ القرآن نَزَلَ حَيْثُ نَزَلَ فَمِنْهُ آيٌ قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَسِيرِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ الْيَوْمِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَأَهْوَاؤُكُمْ واحدة وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأْمُرُوا وَانْهَوْا فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرُؤُ وَنَفْسُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ. فَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَتَأْوِيلَ الْخَبَرِ فَهَذِهِ الْآيَةُ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْحِسَابِ وَالْقِيَامَةِ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْخَبَرِ هُوَ وُجُودُ الْمُخْبَرِ بِهِ وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالْآيَةُ الَّتِي مَضَى تَأْوِيلُهَا قَبْلَ نُزُولِهَا هِيَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ: يَقَعُ الشَّيْءُ فَيَذْكُرُهُ اللَّهُ كَمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قول الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ وَهِيَ وَإِنَّ مَضَى تَأْوِيلُهَا فَهِيَ عِبْرَةٌ وَمَعْنَاهَا ثَابِتٌ فِي نَظِيرِهَا وَمِنْ هَذَا قول ابْنِ مَسْعُودٍ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ وَمِنْهُ قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}. وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَالْمُتَشَابِهُ مِنْ الْأَمْرِ لابد مِنْ مَعْرِفَةِ تَأْوِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ لابد مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي القرآن مَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي الْأَمْرِ مُتَشَابِهًا فَإِنَّ قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قَدْ يُرَادُ بِهِ مِنْ الْخَبَرِ فَالْمُتَشَابِهُ مِنْ الْخَبَرِ مِثْلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْمَاءِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي الدُّنْيَا تَشَابُهٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَمَعَ هَذَا فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ مُخَالِفَةٌ لِحَقِيقَةِ هَذَا وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ لَا نَعْلَمُهَا نَحْنُ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ قال اللَّهُ تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «يَقول اللَّهُ تعالى: أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» فَهَذَا الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَعْلَمُهُ نَفْسٌ هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَكَذَلِكَ وَقْتُ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَشْرَاطُهَا وَكَذَلِكَ كَيْفِيَّاتُ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْحِسَابِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ حَتَّى تَعْلَمَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَا لَهُ نَظِيرٌ مُطَابِقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى يُعْلَمَ بِهِ فَهُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ عَنْ نَفْسِهِ مِثْلَ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَكَلَامِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ كَيْفِيَّاتِ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ كَمَا قال رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَلَقَّوْا هَذَا الْكَلَامَ عَنْهُمَا بِالْقَبُولِ لَمَّا قِيلَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقال: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. هَذَا لَفْظُ مَالِكٍ. فَأَخْبَرَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَهَذَا تَفْسِيرُ اللَّفْظِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَيْفَ مَجْهُولٌ وَهَذَا هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ السَّلَفِ كَابْنِ الماجشون وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا يُبَيِّنُونَ أَنَّ الْعِبَادَ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَالْكَيْفُ هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَأَمَّا نَفْسُ الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فَيَعْلَمُهُ النَّاسُ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ فَهْمِهِ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مَعْنَى السَّمْعِ وَمَعْنَى الْبَصَرِ. وَأَنَّ مَفْهُومَ هَذَا لَيْسَ هُوَ مَفْهُومَ هَذَا وَيَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بَلْ الرُّوحُ الَّتِي فِيهِمْ يَعْرِفُونَهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّتَهَا كَذَلِكَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ. وَأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ عُلُوَّ الرَّبِّ عَلَى عَرْشِهِ وَارْتِفَاعَهُ عَلَيْهِ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ السَّلَفُ قَبْلَهُمْ وَهَذَا مَعْنًى مَعْرُوفٌ مِنْ اللَّفْظِ لَا يُحْتَمَلُ فِي اللُّغَةِ غَيْرُهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَلِهَذَا قال مَالِكٌ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ. وَمَنْ قال: الِاسْتِوَاءُ لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ فَقَدْ أَجْمَلَ كَلَامَهُ فَإِنَّهُمْ يَقولونَ: اسْتَوَى فَقَطْ. وَلَا يَصِلُونَهُ بِحَرْفِ وَهَذَا لَهُ مَعْنًى. وَيَقولونَ: اسْتَوَى عَلَى كَذَا وَلَهُ مَعْنًى وَاسْتَوَى إلَى كَذَا وَلَهُ مَعْنًى وَاسْتَوَى مَعَ كَذَا وَلَهُ مَعْنًى فَتَتَنَوَّعُ مَعَانِيهِ بِحَسَبِ صِلَاتِهِ. وَأَمَّا اسْتَوَى عَلَى كَذَا فَلَيْسَ فِي القرآن وَلُغَةِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ إلَّا بِمَعْنًى وَأحد.
قال تعالى: {فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} وَقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وَقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} وَقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وَقَدْ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ قال: «بِسْمِ اللَّهِ» فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ».